المادة    
استمر العلماء والخطباء والدعاة يثيرون الغيرة في هذه الأمة، ويعلمون أبناء الأمة -من أمراء وجنود وعامة- واجبهم تجاه هذا الغزو الصليبي، وكان من نتائج ذلك أن استجاب بعض الأمراء لداعي الجهاد، وكان أكبرهم أثراً وأكثرهم مصابرة للصليبيين عماد الدين زنكي، ثم من بعده ابنه نور الدين محمود المعروف بالشهيد.
وسيرة نور الدين من أعجب العجب في قمع البدع، وإظهار السنة والعدل؛ ولهذا نصره الله سبحانه وتعالى وقد اجتمعت عليه ملوك أوروبا ؛ فقد جاءت الحملة الصليبية الثانية ومعها أكثر من خمسة ملوك من ملوك أوروبا، وهم ملوك ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرهم، كما جمعت كثيراً من الأمراء، وكبار رجال الدين، فواجه نور الدين هذه الحملة العاتية.. على الرغم من أن مملكته كانت جزءاً صغيراً من شمال العراق وبلاد الشام، هذا كل ما كان يملكه نور الدين، ومع ذلك لما أن قام على هذه السيرة الحميدة، نصره الله تبارك وتعالى نصراً مؤزراً؛ فما مات رحمه الله إلا وقد صار يملك كل بلاد الشام ومصر والحجاز وجزيرة العرب، وما بقي إلا الإمارات الصليبية، وأهمها إمارة القدس التي قدر الله أن يكون فتحها على يد قائده صلاح الدين ؛ ولهذا يجب أن نقف عند سيرة هذا الرجل؛ لأنا عندما نتحدث عن نور الدين فنحن نتحدث عن الأمة مجتمعة، إذ كيف تحول من أمير لمقاطعة إلى أن أصبح سلطاناً كبيراً يهزم أوروبا كلها، فلابد من أخذ العبر من حياته ومن سيرته.
  1. ثناء المؤرخين على نور الدين

    اخترت لكم ما كتبه الإمام الذهبي مؤرخ الإسلام الثقة الثبت رحمه الله تعالى، لنستعرض بعض ما ذكره من حياة هذا الإمام القائد رحمه الله تعالى، يقول: "كان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد -ونِعم الرايتان- قلَّ أن ترى العيون مثله! حاصر دمشق ثم تملكها، وبقي بها عشرين سنة، وافتتح أولاً حصوناً كثيرة -وذكر حصوناً كثيرة جداً- وأظهر السنة بـحلب وقمع الرافضة". فهو الذي ألغى الأذان على طريقة الرافضة في حلب وما جاورها، ولهذا أراد الباطنيون أن يغتالوا بعض قواده، واغتيل بالفعل بعض من كانوا موالين له من الأمراء.
    من أعظم أعماله: نشر العلم والعقيدة الصحيحة، فأنشئت دور العلم، ويذكر المؤرخون أنه لما قدمت الحملة الصليبية الأولى كان عدد المدارس في بلاد الشام مدرسة واحدة فقط، وهي التي تسمى دار الحديث أو ما أشبهها، وهي عبارة عن مراكز علمية متكاملة، مثل المعاهد أو الكليات المتخصصة، وفي أيام صلاح الدين كان عدد المدارس أكثر من تسعين مدرسة، وهذا يدل على أن الأمة قد نهضت نهضة علمية ودعوية؛ ولهذا كان من حقها أن تنتصر بإذن الله سبحانه وتعالى.
    أنشأ نور الدين المارستان -المستشفى- ودار الحديث، والمدارس والمساجد، ومن العجيب في حياته أنه كان يتعرض للشهادة، ويسأل الله سبحانه وتعالى دائماً أن يرزقه الشهادة، مع أنه لم يمت في معركة، كما سنرى إن شاء الله.
    يقول كاتب سره كنت أسمعه يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير.
    يقول الذهبي رحمه الله: "جهز نور الدين رحمه الله جيشاً لجباً مع نائبه أسد الدين شيركوه؛ فافتتح مصر، وقهر دولتها الرافضية، وهربت منه الفرنج، وأباد العبيديين واستأصلهم".
    قال ابن الجوزي رحمه الله: "جاهد -يعني: نور الدين - وانتزع من الكفار نيفاً وخمسين مدينة وحصناً"، أي: أكثر من خمسين مدينة وحصناً انتزعها نور الدين في وقت يعتبر وجيزاً.
    يقول ابن الأثير رحمه الله: "طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وبعده إلى يومنا هذا فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة منه".
  2. من أخلاق نور الدين

    لقد ذكر المؤرخون أخباراً عجيبة عن أخلاق نور الدين، فقالوا: "كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من ملك له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة" أي: أنه جاهد وأخذ سهمه من الغنيمة كجملة المجاهدين وأخذ ينميه فكان أحد مصادر دخله، وهو يملك هذه البلاد.
    وكان له مصدر آخر عجيب للدخل، يقول سبط ابن الجوزي: "كان له عجائز -كان هناك عجائز يتعامل معهن- وكان يخيط الكوافي، ويعمل السكاكر -وهو السلطان نور الدين الذي يحارب ملوك أوروبا جميعاً- فيعطيها العجائز، فيبعنها سراً، ويفطر على ثمنها؛ لأنه كان كثير الصيام نافلة، فيفطر من القوت الحلال الذي تبيعه له العجائز؛ حتى لا يأخذ من بيت المال أي شيء".
    ومثل هذا جدير أن ينصره الله سبحانه وتعالى.
    ومن عجائب أخباره: أن زوجته طلبت منه مالاً وألحت عليه، فتذكر أن من جملة سهمه من الغنيمة ثلاثة دكاكين له في حلب ؛ فأعطاها إياها -وهو السلطان الذي يحكم ما يعادل الآن ست أو ثمان دول- وقال: ليس لي إلا هذا، وأنا خازنٌ للمسلمين، ولا أملك أي شيء.
    قال: "وكان يتهجد كثيراً، لم يترك في بلاده على سعتها مكساً".
    ومن تواضعه رحمه الله أن أحد القواد أو المقربين إليه قال له في إحدى المعارك: بالله لا تخاطر بنفسك، فإن أصبت في المعركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف! فقال: ومن أنا حتى يقال لي هذا؟! حفظ الله البلاد قبلي لا إله إلا هو!
    يقول: من أنا حتى إذا مت ضاع المسلمون؟! قد حفظ الله البلاد قبلي وسيحفظها من بعدي، وهذا يدل على شعوره العميق بعظمة الله سبحانه وتعالى وجلاله.
    أعجب المسلمون إعجاباً شديداً بـنور الدين محمود، وأخذوا يضجون له بالدعاء لما نصره الله، ولما أبطل المكوس والضرائب والعشور التي كانت تؤخذ من المسلمين، ولما رأوا عدله وجهاده وتمسكه بالسنة كانوا يلهجون له بالدعاء في رمضان وغيره.
    قال: وكانوا إذا دعوا له يطيلون في الدعاء ويبالغون في مدحه؛ فغضب، وقال: إن خطباء المساجد يبالغون في الدعاء لي؛ فجمع المقربين له، وقال لهم: لا بد أن تعدلوا هذا، فكتبوا له صيغة، وكلما وضعوا صيغة يخففها؛ حتى اتفقوا على صيغة واحدة يدعى له بها في المساجد وهي: (اللهم أصلح عبدك الفقير إلى رحمتك، الخاضع لهيبتك، المعتصم بقوتك، المجاهد في سبيلك، المرابط لأعداء دينك، أبا القاسم محمود بن زنكي بن آقسنقر ناصر أمير المؤمنين)؛ وذلك لأنه يدافع نيابة عن الخليفة؛ لا يزاد في الدعاء على هذه الصيغة، ولا داعي للمديح والاستطراد فيما لا خير فيه.
    ولما قيل له في ذلك وعوتب، قال: مقصودي ألا يكذب على المنبر، أنا بخلاف كل ما يقال.. أفرح بما لا أعمل؟! قلة عقل عظيمة!! يقول: لا أحب أن أحمد بما لم أفعل؛ لأن من قلة العقل أن يقولوا: فتح وجاهد وفعل، وأنا ما فعلت، وقال لكاتبه: تكفي هذه الصيغة؛ اكتب بها نسخاً حتى نصيرها إلى جميع البلاد.
    ثم قال: ثم يبدءون بالدعاء: اللهم أره الحق حقاً، اللهم أسعده، اللهم انصره، اللهم وفقه... يقول: دع الناس يدعون فقط من جنس هذا الدعاء، أما المدح والثناء فأنا لا أريده، ومن قلة العقل أن أدعهم يثنون علي بما ليس فيّ أو بما يغرني ويفتنني.
    ولهذا يقول الحافظ الذهبي رحمه الله: "كان ديناً تقياً، لا يرى بذل الأموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده نفاق". لا ينفق عنده سوق الشعراء الذين كانوا يمدحون من قبله ومن عاصره من الملوك والسلاطين، فيحشو أحدهم فم الشاعر باللآلئ التي يبلغ ثمن اللؤلؤة الواحدة منها عشرة آلاف دينار. لا سوق لهم كما كان عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه.
    ولهذا قال فيه أسامة بن منقذ:
    سلطاننا زاهدٌ والناس قد زهدوا            لـه فكل على الخيرات منكمش
    أيامه مثل شهر الصوم طاهرة            من المعاصي وفيها الجوع والعطش
    يقول: نحن الشعراء نعتبر أيام السلطان نور الدين مثل أيام رمضان، طاهرة من المعاصي، لكن فيها الجوع والعطش، الشعراء لا يجدون سوقاً، سواء قالوا القصائد أو لم يقولوا؛ فالأموال تذهب للجهاد.
    و أسامة بن منقذ هذا كان فيه بعض موالاة للصليبيين، وكان يحب الدنيا؛ حتى إنه ذهب مع معين الدين آنر الذي كان في دمشق موالياً للنصارى، وكان سفيراً بينه وبين الصليبيين، وكثير من الشعراء والكتاب في كل زمان ومكان يبيعون دينهم، ويخونون أمتهم مقابل شيء من المال أو الشهرة.
  3. تحكيم نور الدين لشرع الله

    كان نور الدين عند ملوك الترك، وتربى على أيديهم، والذي رباه مودود رحمه الله الذي قتل في المسجد، ثم كان ابنه نور الدين، فهم تربوا على نفس التربية، وكان عند ملوك الترك شيء يسمى الياسا أو الياسق، وهو عبارة عن قوانين وضعية -وأكثرها قوانين عسكرية- تطبق على الرعية دون الرجوع إلى الشرع وإلى حكم الله، فهو عرف اتخذ وأصبح شرعاً.
    وفي أيام التتار ظهر ذلك وطغى، حتى إن شيخ الإسلام رحمه الله أفتى بوجوب قتال التتار؛ لأنهم لا يتحاكمون إلى دين الله، وإنما يتحاكمون إلى الياسق .
    يقول المؤرخون: انتشر الفساد، وقطع الطريق؛ فجاء قواد الجيش وقالوا لـنور الدين : لابد أن تطبق الياسق أو تأخذهم بنوع من السياسة -كما تسمى أحياناً- فقد كثر الدعَّار وأصحاب الفساد، ولا يجيء من هذا شيء إلا بالقتل والصلب، ثم قالوا لرجل يسمى الشيخ عمر الزاهد وكان من العباد، وكان يحبه -وهذه من المظاهر العجيبة في سيرة نور الدين أنه كان يحب العلماء والزهاد والعباد جداً- فقالوا له: اكتب لـنور الدين في ذلك، فكتب الشيخ عمر قائلاً: إن الدعار والمفسدين وقطاع الطريق قد كثروا، ويحتاج -أي: من يريد قمعهم- إلى سياسة، ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ مال إنسان في البرية من يشهد له؟!
    أحياناً قد يجامل العلماء أصحاب السلطة، لكن السلطان العادل لا يقبل هذه المجاملة.
    فهذا الزاهد كتب إلى السلطان يقول: إذا أخذ مال إنسان في البر، وذهبنا به إلى المحكمة، فإن القاضي يريد شهوداً، ومن أين له بشهود على ما يقول؟! فتضيع الحقوق، فلابد أن يؤخذ الناس بالظنة وبالتهمة، ويطبق عليهم قانون الياسق، فلما قرأ نور الدين الكتاب قلبه، وكتب على ظهره: "إن الله تعالى خلق الخلق، وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم، وإن مصلحتهم تحصل فيما شرعه على وجه الكمال فيها, ولو علم أن على الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها، فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى، فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة، فهو يكملها بزيادته! وهذا من الجرأة على الله وعلى شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم".
    فلما وصل الكتاب إليه في الموصل جمع الشيخ عمر أهل الموصل، فقرأ الكتاب عليهم، وقال لهم: انظروا في كتاب الزاهد إلى الملك، وكتاب الملك إلى الزاهد..! وهو أمر في غاية العجب؛ أن الزاهد يكتب للملك يأمره بغير الحق، والملك يكتب للزاهد فيذكره بضرورة اتباع الحق!
    وكان نور الدين يقرب الفقهاء والقضاة والعلماء، وأخباره بذلك مشهورة، ولم يكن لأهل اللهو واللعب واللغط في مجلسه أي مكان، وكان كلما دعي إلى قضية يتمثل قول الله تبارك وتعالى: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا))[النور:51].
    ومرة جاء رجل وشكاه إلى القاضي؛ فأمر القاضي أن يعامله كما يعامل آحاد الناس، وذهب إلى القاضي متمثلاً بهذه الآيات، وجلس حتى أصدر القاضي حكمه، وحكم له، فقال: أما وقد ظهر أن الحق لي، وقد حكمت وفق الشرع، فأنا قد وهبته لذلك الخصم!
  4. نور الدين وموقفه من المكوس

    وكان الصليبيون والأمم الغربية من كل مكان يمولون هذا العدوان على العالم الإسلامي، وكان نور الدين محمود يعيش في قلة -كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله- من العدد والمال.
    ماذا يصنع نور الدين وهو يحتاج إلى المال؛ فالجهاد لابد له من المال؟! لقد وجد أن من قبله كانوا يأخذون الضرائب والمكوس والعشور من الرعية المسلمين، ويجمعونها ليجاهدوا بها الصليبيين، وتكون المعارك خاسرة، أو أحياناً نصراً وأحياناً هزيمة، فما رضيت سيرته المتأسية بالخلفاء الراشدين هذا الأمر؛ وكان يرى أنه لابد من إبطال هذه المكوس والضرائب، فأمر بإبطالها جميعاً، وكتب إلى جميع البلاد والقرى والأمصار أنه قد ألغاها إلغاءً أبدياً، وأنه يطلب من كل الخطباء في دولته أن يطلبوا من المسلمين جميعاً من فوق منابر الجمعة أن يسامحوه على ما أخذ منهم فيما مضى، وأن يستغفروا الله تعالى له من ذلك.
    وكان يقوم الليل ويبكي، ويقول: اللهم ارحم العشار المكاس؛ لأنه كان يأخذ العشور والمكوس من المسلمين، ولما أمر بذلك قال له قادة جيشه وأركان حربه: إن فعلت ذلك لم يبق لنا شيء نجاهد به الصليبيين.
    فقال لهم: إن كان الجهاد لا يأتي إلا من هذا -المال الحرام- فلا نريد الجهاد.
    قالوا: إنك إن لم ترد الجهاد أنت جاهدك أعداؤك.
    قال: لا نجاهدهم إلا بالحلال، والله تعالى هو المستعان.
    فألغى ذلك كله، فكانت النتيجة أن الله سبحانه وتعالى نصره، وبارك له في القليل الذي أعطاه.
    يقول الإمام الذهبي رحمه الله: "أسقط المكوس في بلاده، وقد ذكرته في تاريخنا الكبير مفصلاً، ومبلغه في العام: خمسمائة ألف دينار وستة وثمانون ألف دينار وأربعة وسبعون ديناراً من نقد الشام"، أسقط هذه المبالغ الباهظة لما علم أنها حرام، ولم يستعن بها في الجهاد، يقول: لا نصرف في الجهاد إلا ما كان حلالاً.
    ويذكر صاحب البرق الشامي أنه كتب أكثر من ألف منشور إلى الرعية من أجل هذه المسألة.
  5. تأسي نور الدين بالنبي صلى الله عليه وسلم

    كان نور الدين رحمه الله يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في أمور كثيرة، يقول المؤرخون: كانت تُقرأ عنده السيرة والعلم، فقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج للحرب متقلداً السيف، أي: معلقاً إياه في حمائل تدور حول الرقبة كأنها القلادة.
    قال: سبحان الله! ولماذا نحن نلبسها على أوساطنا؟! فأمر أفراد جيشه أن يغيروا ذلك، وأن يلبسوا السيوف كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يلبسونها؛ لعل الله ينصرنهم! فكان يريد أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى في هذه الأمور، وذلك بغية أن ينصره الله سبحانه وتعالى، وقد نصره الله سبحانه وتعالى، وجدير بمثله أن ينصر؛ لأنه على هذه الحالة.
    يقول المؤرخون: "كان قد أقبل يعد للجهاد آلته مما آتاه الله، ونشط في البناء والتعمير؛ حتى أنفق فيهما مئات الألوف، وقد أعانه على ذلك أنه لم تكن له نفقات قصور ولا خدم ولا حشم ولا جوارٍ، ولا مجالس أنس تملأ أفواه الندامى فيها بالدر والدنانير، جوائز على أبيات من شعر الملق السخيف، وإنما كان يبني المدارس والمساجد والمستشفيات، ويقيم أسوار المدائن وقلاعها".
  6. الرياضة البدنية عند نور الدين

    كان نور الدين يمارس الرياضة، ولكن هذه الرياضة التي كانت عند نور الدين ليست للتحدير، أو لتفريق الأمة وتمزيقها والتشتيت حتى بين الزوجين.
    لا! إنها رياضة من نوع خاص، ومع ذلك انتقد فيها وأجاب عنها رحمه الله، يقول عنه سبط ابن الجوزي: "لم يلبس نور الدين حريراً ولا ذهباً، ومنع الخمر في بلاده، وكان كثير الصوم، وله أورادٌ في الليل والنهار، ويكثر اللعب بالكرة".
    بل ومن العجائب أن ابناً لـنور الدين رحمه الله توفي وعمره أقل من عشرين سنة بسبب مرض أصابه يسمى (القولنج)، فأصر عليه الأطباء أن يشرب الخمر، وقالوا: لا علاج لك إلا أن تشرب الخمر، فقال: والله لا أشربها، وأبى أن يشربها ويعصي الله.
    فجاءوا له بفقيهين: أحدهما شافعي والآخر مالكي، وقالا له: لا بأس أن تشربها -ضرورة- فأقسم أنه لا يعصي الله سبحانه وتعالى، ولا يموت وفي جوفه شيءٌ مما حرم الله، وتوفي رحمه الله.
    هذا ابن نور الدين، وكذلك كان أبوه.
    ومع هذه السيرة كان يكثر اللعب بالكرة، وكانت هذه الكرة نوعاً من أنواع الرياضة تشبه (الجولف)، عبارة عن كرة ترمى ويستقبلها اللاعبون بصولجان وما أشبه ذلك، كانوا يستخدمون فيها الخيول ويلعبون بها.
    وكان نور الدين محمود رحمه الله يركب الفرس هو وجيشه ويلعبون هذه الكرة، فلما أنكر عليه ذلك، قال: والله ما أقصد اللعب، وإنما نحن في ثغر، فربما وقع الصوت -ربما نادى المنادي للجهاد- فتكون الخيل قد أدمنت الانعطاف والكر والفر، أي: نكون مستعدين للجهاد، وهذا اللهو هو من الحق كما ذكر صلى الله عليه وسلم: أن {كل لهو يلهو به المرء باطل إلا ثلاثة} ومنها: أن يكون الإنسان ملاعباً فرسه ليجاهد في سبيل الله عز وجل.
    حتى إن ابن كثير رحمه الله يثني على قوته، يقول -نقلاً عن ابن واصل-: كان من أقوى الناس قلباً وبدناً، لم ير على ظهر فرسٍ أحدٌ أشد منه، كأنما خلق عليه لا يتحرك، وكان من أحسن الناس لعباً بالكرة، يجري الفرس ويخطفها من الهواء، ويرميها بيده إلى آخر الميدان، ويمسك الجوكان بكمه تهاوناً بأمره، وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها".. يتأسف على ذلك!
    قال الذهبي رحمه الله: "قلت: قد أدركها على فراشه، وعلى ألسنة الناس نور الدين الشهيد"، لأن اسمه نور الدين الشهيد في التاريخ، مع أنه مات على فراشه، فيقول الذهبي رحمه الله تعالى: "فلعل هذا إن شاء الله فألٌ حسن له"، وقد أدركها على فراشه بتمنيها وبالسعي إليها؛ لأن {من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه} كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فهو قد تمنى الشهادة في سبيل الله فأعطيها.
  7. العبرة من حياة نور الدين

    لا أحب أن أطيل عليكم في سيرة هذا الرجل، فهي سيرة عجيبة، وجدير بنا أن نقرأها ونتأملها، وما ذكرت منها إلا موجزاً، وإنما نريد أن نصل إلى العبرة النهائية، أن هذا الرجل هو الذي افتتح إمارات الصليبيين، ثم رزقه الله سبحانه وتعالى بقائده صلاح الدين، فأكمل فتحها بعد حطين، وقضى جيوش على أوروبا التي اجتمعت عليه.
    وهكذا جمع الله تبارك وتعالى بمثل هذا الرجل الأمة بعد الفرقة والشحناء، جمعها على السنة بعد البدعة، فقمع دولة الرافضة وقهرها كما رأيتم من كلام العلماء رحمهم الله، وأزال البدعة من الأذان ومن غيره، وأعاد تدريس الحديث والسنة في المساجد، وقرب العلماء والفقهاء، ومكن للشرع والقضاة، وقطع دابر الدعارة والفساد، ومنع بيع الخمور والزنا وكل ما يتعلق بهما، وكان شديداً في الإنكار على أهلها، قوياً عليهم، فلما كان كذلك، طهر البلاد من الفساد ومن أكل الحرام، ومن المكوس والربا، وأمرها عظيم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حين تكلم عن المرأة التي زنت ورجمها الصحابة الكرام قال: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبل منه أو لغفر له}.
    فهذا دليل على أن المكس أعظم من الزنا، وكذلك الربا، كما روى الإمام أحمد رحمه الله في الحديث الصحيح: {درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية} والعياذ بالله، فالربا والمكوس والضرائب وأكل الحرام عموماً سواء للأمم أو للأفراد يباعد النصر، ويدمر الأمة، ويحول بينها وبين وعد الله تبارك وتعالى لها بأن تغلب أعداءها وأن تهزمهم.
    وقد قضى نور الدين على ذلك كله، فنصره الله سبحانه وتعالى نصراً مؤزراً، وأبقى ذكره، وإن كنا نحن المسلمين -مع الأسف- في غفلة عن ذكره، لكن أبقى الله تبارك وتعالى ذكره عند المطلعين، وهو عند الغربيين أذكر وأشهر.
    والمؤرخون الصليبيون كانوا يعجبون من سيرته؛ حتى إن أحد ملوك الصليبيين قال: ما غلبنا من ملوك المسلمين إلا نور الدين، وما غلبنا بكثرة جيوشه، ولكنه كان يعبد الله ويقوم في الليل يدعو علينا.
    فكان نور الدين يدعو الله، ويجاهد في سبيل الله، ويطهر البلاد من الفساد، ويجمع الأمة على الحق، وعلى الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، ولم يكن وحده؛ بل كان معه العلماء الذين كانوا ينصحونه، والقضاة الذين أجلسوه وحاكموه مع الرجل كما يحاكم أي إنسان، وكان معه أيضاً القواد الذين كانوا يضحون ويجاهدون كما جاهد، ومنهم: صلاح الدين رحمه الله، فهو ليس رجلاً وحده، وإنما هي -كما قلت- أمة متجسدة في سيرة هذا الرجل، فهزم الله تبارك وتعالى الصليبيين على يديه.
    ولا نستطيع أن نستعرض سيرة صلاح الدين ولعل الله سبحانه وتعالى أن يتيح ذلك عاجلاً إن شاء الله، ولكن نقول: حسبنا هذا الذي بدأ هذه البداية، وأن الله تبارك وتعالى قد هزم الغرب مجتمعين، فأظهر دينه، وهزم الأحزاب وحده على يد هذا الرجل.
    فالعبرة قائمة، وتاريخه موجود، وجدير بنا أن ندرسه بعناية، لا كما هو موجود في مناهجنا: نور الدين ولد عام كذا، وتوفي عام كذا، وفتح بعلبك، وحارب الصليبيين، ووصل إلى دمشق، فهذه السيرة يمكن لأي امرئ أن يسردها، إنما الذي نريده أن نعرف لماذا كان المسلمون قرابة قرن من الزمان في ذل وانحطاط، ولماذا انتصر هذا الرجل، وكيف كانت الأمة علمياً ودعوياً وجهادياً، وقبل ذلك كيف كانت عقائدياً، وكيف تحولت من البدعة إلى السنة، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الشهوات والملذات والجواري والترف والقصور والحشم إلى الجهاد.
    يذكر المؤرخون أن أكثر حياة صلاح الدين ونور الدين كانت في الخيام، كانوا يجاهدون في سبيل الله عز وجل، لما فعلوا ذلك نصرهم الله سبحانه وتعالى، وإن وعد الله سبحانه وتعالى لا يتخلف: ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً))[النساء:122].
    فكل من استحق نصر الله، وهيأ نفسه له؛ فإن الله تعالى ينصره، بل ويمده بجند من عنده، نسأل الله تبارك وتعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وترفع فيه راية الجهاد في سبيل الله.